Menu

المذيع الرياضي نموذجًا

Ahlia University

أدب الشفاه

 

بقلم: عقيل يوسف رضي


 

صور عديدة من الحديث والقص تحديدًا يمكن أن تدرج ضمن الأدب الشفاهي الذي يُنظر له على أنه أساس للكثير من الكتابات الأدبية اللاحقة عليه، من ذلك حكايات الجدات وخرافاتهم التي كانت تستحوذ على إهتمام الأطفال فيتحلقون يستمعون لها، كان بعضها عجائبيا يسرح في بحر الخيال، كما ارتبط البعض الآخر من تلك الحكايات بواقع اجتماعي عاشته المجتمعات.
 
ومن صور الأدب الشفاهي أيضا تلك الأمثال الشعبية التي خلص لها الناس بعد رواية قصة موقف هنا أو هناك، ومن ذلك الأدب الأغاني والأهازيج التي قيلت في مواقف شتى وكان يناغى بها الأطفال الصغار، وارتبطت صور من هذا الأدب بالأساطير التي جاءت بها الحضارات السابقة.
 
إذًا فقد حمل هذا الأدب الشفاهي بلا مواربة حصيلة ثقافية جاءت عبر سلسلة متراكمة من الأزمنة الحضارية، وكان محتويًا على خبرات شخصية وجماعية لمن عاش تلك العصور، فلا غرابة أن توجه الدعوة دائما للعمل على توثيق هذا النوع من الأدب والإهتمام به لإنه يمثل صورة موجزة عن وجه من وجوه الحضارة.
 
والواقع أن العديد من الأجناس الأدبية يمكن للباحث حين يقف أمام تاريخنا العربي أن يجد لها بعض الجذور التي تستوعب بعض خصائصه لكنه الآن يقدم بروح جديدة وقوالب مختلفة، مع التزام بعض التقنيات والأساليب، فمن السهل أن تجد في بطون التغريدات tweet وما قبلها من رسائل نصية قصيرة تناولت العديد من الأغراض أن تجد خلفها (أدب التوقيعات) المختزل الذي تناوله نقاد الأمس كصورة من صور الكتابة النثرية الموجزة، كما يمكن لك أن تجد في الكتابة المسرحية والروايات والقصص القصيرة روحًا من المقامات والقص القديم، ولا غرابة أن يبذل النقاد جهدًا في التأصيل لذلك، ودراسة بواكير كل تلك الممارسات الأدبية في تربة الثقافة العربية قديمًا.
 
وهذا ما يمكن قوله عن التعليق الرياضي على لسان المذيع المتابع لحدث رياضي، إذ يمكن النظر له كشكل من أشكال الأدب الشفاهي غير المكتوب، لما يتمتع به هذا القول من عناصر تنسجم مع ما نجده في أشكال الأدب الأخرى فنيًا ولغويًا وأسلوبيًا وبلاغيًا، وما يحمله لدى بعض المذيعين من ثقافة.
 
سوف نتجاوز تلك المتعة التي يتركها المعلق الرياضي في نفوس المشاهدين – والأدب قرين المتعة – فلا يمكن لك أن تشاهد مباراة صامتة، دون أن تترافق مع معلق رياضي يشحنك بالحماس ويرفع من وتيرة التفاعل لديك، فقد صار التعليق الرياضي صورة حية للمبارة، مؤثرًا صوتيًا لمشهدٍ سوف يكون جامدًا من غيره.
 

الحديث الآن عن التعليق الرياضي بوصفه نصًا أدبيًا شفهيًا يتسم بعدة سمات تؤهلنا لإدارجه ضمن النصوص التي تنتظر التشريح والبحث، ومن تلك السمات ما هو ثقافي، ولغوي، وبلاغي
 
أما السمات الثقافية، فلأن التعليق الرياضي صار نصا مفتوحا على التاريخ الرياضي للعبة واللاعبين وبعد ذلك الدخول لتاريخ الدول والأحداث قديمها وحديثها، صار المعلق الرياضي مؤرخا في جانب وهو يعود للحديث عن الخلفيات ويقدم تحليله لعوامل تشكيل الحدث الرياضي وأبعاده، وهو في ذلك يستعين بمجموعة كبيرة من المعلومات، التي يستقيها من مصادر عديدة ويسندها أحيانا كي لا يخل بعمله الإعلامي.
 
ومن السمات اللغوية والأسلوبية، ما يتمتع به المعلقون اليوم من استراتيجيات القص والحكي، فالفعالية الرياضية هي حكاية او قصة صار المذيع يرويها، ويعمل على على سرد أحداثها إما في أسلوب تسلسلي من أول القصة/ المباراة حتى آخر حدث فيها، وقد يلجأ في ذلك للحذف والاسترجاع والوصف والتلخيص كمهارات تربط بين فصول الحدث الرياضي، وبعض المعلقين الرياضيين صار يلجأ للتناوب في السرد حيث يغادر الحدث قليلا ويعود إليه بعد أن يطرح أقاصيص صغيرة في بطن الحدث الأكبر كل ذلك على سبيل التشويق وشد انتباه المشاهدين.
 
المعلق الرياضي راو لكنه يلجأ كما يلجأ أي كاتب لإعطاء دوره للمخاطب يتقمص دوره، ويواصل السرد على لسانه، إنها لعبة السرد التي تترك لكل مذيع وإبداعه حيث تتداخل أصوات اللاعبين ويدير المعلق الحوار بين الخصوم/ الشخصيات بحوارات ضمينة لا تخلو أحيانا من منلوج داخلي على لسان هذا اللاعب أو المدرب.
 
أما الوصف فهو يحضر كممارسة نصية في نص المذيع ليستوعب الكثير من مفاصل الحدث، هناك وصف للشخصيات وأبطال القصة/المباراة، ومسيرتهم، وانتقالاتهم، وحياتهم، والمحطات والمواقف التي مروا بها، ثم يأتي وصف الأمكنة سواء موقع الحدث الرياضي أو محيطه العام وتتداخل عملية الوصف مع مراحل سرد المباراة في ارتباط متماسك مرجعه لمهارة المعلق الرياضي وقدرته اللغوية والبلاغية.
 
التعليق الرياضي كنص يمكن أن يعرض للدراسة الأسلوبية التي تميز معلقا رياضيا عن آخر، كما يتفرد أديب بأسلوبه، وذلك يمكن رصده بسهولة حين نرى التراكيب والعبارات الجارية على ألسن المشاهدين والمتابعين “الأسلوب هو الشخص”، هو نص ثري ببلاغته والمعلق الذكي يرى مهمته أمام جمهوره في كيف يقنعه بأنه أمام ما يستحق المشاهدة والمتابعة.
 
إدراج تعليق المذيع الرياضي ضمن نماذج النصوص الشفهية التي تستحق الدراسة من قبل الباحثين سيشكل إضافة علمية في هذا المجال، فمذيع اليوم الذي يتحدث لمدة ساعة ونصف في مباراة كرة قدم على سبيل المثال، يستحضر دور الخطيب الذي كان يقف قديمًا وحديثًا لتقديم موضوعه بطريقة شائقة ومؤثرة وربما وجدنا لدى نماذج ناجحة من المذيعين الرياضيين من ملامح الأدب ما لا نجده في عدد من النتاجات المصنفة ضمن خانة النتاج الأدبي، سواء في إيقاع النص داخليًا وخارجيًا وموسيقاه، أو في الصورة الفنية التي ينسجها المذيع في حدود ما يعلق عليه وهي عملية أعقد من الصورة الفنية في أي نص آخر لإن الكاتب هنا أمام حدث محدود الزمان والمكان والخروج به إلى فضاء واسع عمل كلفته أكبر مما لو كنا في نص يكتب بلا قيود.
 
إن في حديث المذيع الرياضي بنيات خطابية وتواصلية تنتظر من يقف عليها ليقدم لقراء الإعلام والأدب نموذجًا يعمل على تطويره وتنميته كنموذج من نماذج الخطاب والتواصل.

 

close-link

Discover Our New programmes: Elevate Your Experience!

close-link